عن المقال
الأدب في طلب العلم
الأدب في طلب العلم
لابد لطالب العلم من آداب في نفسه , تعينه على ثبات عِلْمِه ونشره .
عن المهدي أبي عبد الله قَالَ : سمعت سفيان الثوري , يقول : كان يقال : أَوْلُ العِلْمِ الصَّمت , والثاني : الاستماع له وحفظه , والثالث : العمل به , والرابع : نشره وتعليمه .
عَنْ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ قَالَ : كَادَ الْخَيِّرَانِ أَنْ يَهْلِكَا أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ . لَمَّا قَدِمَ عَلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفْدُ بَنِي تَمِيمٍ ؛ أَشَارَ أَحَدُهُمَا بِالْأَقْرَعِ بْنِ حَابِسٍ التَّمِيمِيِّ الْحَنْظَلِيِّ -أَخِي بَنِي مُجَاشِعٍ -وَأَشَارَ الْآخَرُ بِغَيْرِهِ , فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ لِعُمَرَ : إِنَّمَا أَرَدْتَ خِلَافِي , فَقَالَ عُمَرُ : مَا أَرَدْتُ خِلَافَكَ , فَارْتَفَعَتْ أَصْوَاتُهُمَا عِنْدَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , فَنَزَلَتْ {يَا أَيُّهَا الَّذين آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ} إِلَى قَوْلِهِ {عَظِيمٌ} قَالَ ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ : قَالَ ابْنُ الزُّبَيْرِ : فَكَانَ عُمَرُ بَعْدُ ؛ إِذَا حَدَّثَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِحَدِيثٍ حَدَّثَهُ كَأَخِي السِّرَارِ , لَمْ يُسْمِعْهُ حَتَّى يَسْتَفْهِمَهُ .
وهذا عبد العزيز بن مروان - والد عمر بن عبد العزيز - بعث ابنه عمر إلى المدينة يتأدبُ بها , وكتب إلى صالح بن كيسان يتعاهده , وكان يلزمه الصَّلوات , فأبطأ يومًا عن الصَّلاة فقال : ما حبسك ؟ قَالَ : كَانَتْ مُرَجِّلَتي تُسَكِّن شَعْرِي , فقال : بلغ من تَسْكِين شَعْرِكَ أَنْ تُؤْثِرَهُ عَلَى الصَّلاة . وكتب بذلك إلى والده فبعث عبد العزيز رسولًا إليه ؛ فما كلَّمه حتى حلق شعره .
قَالَ مالك بن أنس : وحُق على من طَلَبَ العِلْمَ أن يكون له وقار وسكينة وخشية , والعِلْم حسن لمن رُزِق خيره , وهو قَسْمٌ من الله , فلا تمكن النَّاس من نفسك , فإن من سعادة المرءِ أن يُوفق للخيرِ , وإن من شِقْوَةِ المرء أن لا يزال يخطئ , وذُلٌ وإِهَانَةٌ للعِلْمِ أن يتكلم الرجلُ بالعلمِ عند من لا يطيعه .
قَالَ القعنبي : سمعت مالك بن أنس يقول : كان الرَّجل يختلف إلى الرَّجُلِ ثلاثين سنة يتعلم منه .
قَالَ ابْنُ الْمُبَارَك : لَو لَمْ يُؤْتَ مَخْلَد بن حُسين إلا ليعلم منه الأدب , كان يَنْبَغِي أَنْ يُؤتى .
قَالَ زكريا العنبري : عِلْمُ بِلَا أَدَبٌ كَنَارِ بِلا حَطَب , وَأَدَبٌ بِلَا عِلْم كَرُوحٍ بِلَا جِسْم .
قَالَ الحسن : إن كان الرَّجُل ليخرج في أَدَبِ نَفْسِهِ السَّنَتَيْن ثُمَّ السَّنَتَيْن .
قَالَ عبد الله بن المبارك : طَلَبْنا الأدبَ حين فاتنا المؤدِّبون .
وعن عبد الرحمن بن مهدي قَالَ : رأيت رجلًا جاء إلى مالك بن أنس يسأله عن شيءٍ أيامًا ؛ ما يجيبه ! فقال : يا أبا عبد الله إني أريد الخروج , قَالَ : فَأَطْرَقَ طَويلًا ثم رفع رأسه وقال : ما شاء الله يا هذا ! إِنِّي إِنَّمَا أَتَكَلَّم فِيمَا أَحْتَسِب فِيه الخير , وليس أُحْسِنُ مَسْأَلَتَك هَذِه .
وعن ابن مهدي قَالَ : سَأَلَ رَجُلٌ مَالِكًا عَنْ مَسْألَةٍ , فقال : لا أُحْسِنها , فقال الرجل : إني ضَرَبتُ إِلَيك من كَذا وكذا لأسألك عنها , فقال له مالك : فَإِذَا رجعت إلى مَكَانك , وموضعك فأخبرهم أني قد قلت لك : إني لا أُحْسِنها .
فقد كان من هدي السَّلف رضي الله عنهم التَّرَوِّي في طلب العلم ولا ينشرونه إلا بقدر حاجةِ النَّاس إليه ليظلَّ عَزِيزًا عند أهله .
قَالَ سُفْيان الثَّوري : مَنْ حدّث قبل أن يحتاج إليه ذَلَّ .
وَقَالَ أيضًا : إذا ترأس الرَّجُل سَرِيعًا أَضَرَّ بِكَثيرٍ من العلم , وإذا طَلَب وطَلَب بلغ .
وعن عبد الرحمن بن مهدي قَالَ : كان يقال : إذا لقي الرَّجُلُ الرَّجُلَ فوقه في العلم , فهو يوم غنيمته , وإذا لقي من هو مثله دارسه وتعلم منه , وإذا لقي من هو دُونه تواضع له وعلَّمه.
وَقَالَ سُفْيان الثَّوري: لا نَزَالُ نَتَعَلَّمَ العِلْمَ مَا وَجَدْنَا مَنْ يُعَلِّمنا .
وعن زيد بن الحباب قَالَ : سمعت سفيان الثَّوري وسأله شيخ عن حديثٍ فَلَمْ يجبه , قَالَ : فَجَلَسَ الشَّيخُ يبكي , فقام إليه سفيان فقال : يا هذا ! تريد ما أخذته في أربعين سنة أن تأخذه أنت في يومٍ واحد .
قَالَ أبو داود : كنت يومًا بباب شعبة , وكان المسجد مِلْأً فخرج شعبة فاتَّكأ علي , وقال : يا سُليمان ! ترى هؤلاء كلهم يخرجون مُحَدِّثين ؟ قلت : لا , قَالَ : صَدَقْت , ولا خمسة ! يكتب أحدهم في صغره ثم إذا كبر تركه , أو يشتغل بالفساد . ثم نظرت بعد ذلك فما خرج منهم خمسة .
قَالَ الشّافِعي : فالواجب على العالمين أن لا يقولوا إلا من حيث علموا , وقد تكلم في العلم من لو أمسك عن بعض ما تكلم فيه منه ؛ لكان الإمساك أولى به , وأقرب من السلامة له إن شاء الله .
يقول ابن القيم رحمه الله في نونيته :
|
|
وقال قتادة : مَنْ حَدَّثَ قَبْلَ حِينِهِ افْتَضَحَ في حِينِهِ .
ولقد كان من هدي السَّلف رحمهم الله , طُول الملازمة للمشايخ مع حسن الأدب , قَالَ مَعْمَر : سمعت الزُّهْرِي يقول : إن كنت لآتي باب عروة ؛ فأجلس ثم أنصرف ولا أدخل , ولو أشاء أن أدخل لدخلت إِعظامًا له .
وقال سمعت الزُّهْرِي يقول : مَسْت رُكْبَتي ركبة سعيد بن المسيب ثماني سنين .
قَالَ الزُّهْرِي : كنا نأتي العالم ؛ فما نَتَعَلَّمُ مِنْ أَدَبِهِ أَحَبّ إلينا من عِلْمِهِ .
وقال معاذ بن سعد : كنت جالسًا عند عطاء , فحدَّث بحديثٍ فعرض رجل له في حديثه فغضب عطاء , وقال : ما هذه الأخلاق ؟! وما هذه الطَّبائع ؟! والله إني لأسمع الحديث من الرَّجُلِ وأنا أعلم به منه ؛ فأريه أني لا أحسن شيئًا منه .
وقال ابن وهب : ما نقلنا من أَدَبِ مَالِكٍ أكثر مما تعلمنا من عِلْمِهِ .
قَالَ أبو الدَّرداء : مِنْ فِقْهِ الرَّجُلِ مَمْشَاه , ومَدْخَلُه , ومَخْرَجُه , ومجلسه مع أَهْلِ العِلْم .
قَالَ أحمد بن سِنان : كان لا يُتَحَدَّثُ في مجلسِ عبد الرحمن , ولا يُبْرَى قَلَمٌ ولا يَتَبَسَّمُ أحدٌ ولا يقوم أحدٌ قائمًا , كأن على رُؤُوسهم الطَّير , أو كأنهم في صلاة , فإذا رأى أحدًا منهم تبسَّم أو تحدَّث ؛ لبس نعله وخرج .
قَالَ سفيان الثوري لسفيان بن عيينة : مَالَكَ لا تحدث ؟ فقال : أَمَا وَأَنْتَ حَيٌّ فَلَا . .
قَالَ أبو إسحاق الجوزجاني : سمعت يحيى بن معين يقول : الذي يحدث ببلد به من هو أولى بالتَّحْدِيثِ مِنْهُ أَحْمَق وإِذَا رَأَيتني أُحدِّث ببلدٍ فيها مثل أبي مِسْهَر فينبغي للحيتي أن تُحْلق .
وقيل إن أبا نُعيم الحافظ ذُكِرَ لَه ابن مَنْدَة , فقال : كان جبلًا من الجبال . فهذا يقوله أبو نُعيم مع الوحشةِ الشَّديدة التي بينه وبينه .
وهذا شعبة لما يسمع صوت الأقلام على الألواح أراد أن يلمح لطلابه مسألة في الأدب مُعَرِّضًا لها دون تصريح , فلما لم يدركوا مراد شيخهم ترك التحديث .
قَالَ الأصمعي : كنا عند شعبة فجعل يسمع -إذا حدث - صوت الألواح , فقال : السَّماء تمطر ؟ قالوا : لا , ثم عاد للحديث فسمع مثل ذلك , فقال : المطر ؟ قالوا : لا , ثم عاد فسمع مثل ذلك , قَالَ : والله لا أحدِّث اليوم إلا أَعْمَى , فمكث ما شاء الله , فقام أَعْوَرٌ فقال : يا أَبَا بِسْطَام تخبرني أنا .
ورحل يحيى بن يحيى إلى مالكٍ وهو صغير , وسمع منه وتفقه بالمدنيين والمصريين من كبار أصحاب مالك , وكان مالكٌ يعجبه سمته وعقله , وروي أنه كان يومًا عند مالك في جُمْلَةِ أَصْحابِهِ , إذا قَالَ قَائِلٌ : قد حضر الفِيل فخرج أصحاب مالك كلهم لينظروا إليه , فقال له مالك : لم لا تخرج فترى الفيل ؟ لأنه لا يكون بالأندلس ! فقال له يحيى : إنما جِئْتُ من بلدي لأنظر إليك , وأتعلم من هَدْيِك وعِلْمِك , ولم أجيء لأنظر إلى الفيل , فَأُعْجِب به مالك , وسمّاه عاقل أهل الأندلس , وانتهت إليه الرياسة في العلم بالأندلس .
قال محمد بن رافع : كنت مع أحمد وإسحاق عند عبد الرَّزاق , فجاءنا يوم الفطر فخرجنا مع عبد الرَّزاق إلى المصلى ومعنا ناس كثير , فلما رجعنا دعانا عبد الرَّزاق إلى الغداء ثم قَالَ لأحمد وإسحاق رأيت اليوم منكما عجبًا لم تكبرا ! فقال أحمد وإسحاق : يا أبا بكر كنا ننتظر هل تكبر فنكبر ؛ فلمّا رأيناك لم تكبر أمسكنا , قَالَ : وأنا كنت أنظر إليكما هل تكبران فأكبر .
قَالَ أبو حاتم الرازي : كان ابن المديني علمًا في النَّاس في معرفة الحديث والعلل , وكان أحمد بن حنبل لا يسميه ؛ إنما يكنيه تبجيلا له , ما سمعت أحمد سمّاه قط.
ولا بد أن يكون طالبُ العلم عفيفًا , متغافلًا عمّا في أيدي النَّاس ليصون علمه ويحفظه .
قَالَ الفضل بن عمر النَّسوي : كنت بجامع صور عند الخطيب -البغدادي , فدخل عليه عَلَويٌ وفي كُمِّه دنانير فقال : هذا الذَّهب تصرفه في مهماتك , فقطب الخطيب وقال : لا حاجة لي فيه , فقال : كأنك تستقله ! ونفض كمه على سجادة الخطيب , وقال : هي ثلاث مائة دينار , فخجل الخطيب وقام , وأخذ سجادته وراح , فما أنسى عِزَّ خروجه , وذُلَّ العَلَوِيِّ وهو يجمع الدَّنَانير 0
وهذا ابن أبي الطَّيب العلامة المفسر , حمل إلى السَّلطان محمود بن سبكتكين ليسمع وعظه , فلما دخل جلس بلا إذن , وأخذ في رواية حديثٍ بلا أمر , فتنمر له السُّلطان , وأمر غلامًا فلكمه لكمةً أطرشته , فعرَّفه بعضُ الحاضرين منزلته في الدِّين والعِلم , فاعتذر إليه وأمر له بمالٍ فامتنع , فقال : يا شيخ إن للمُلك صولة , وهو محتاج إلى السياسة , ورأيت أنك تعديت الواجب , فاجعلني في حِلٍّ , قَالَ : الله بيننا بالمرصاد , وإنما أحضرتني للوعظ وسماع أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم وللخشوع , لا لإقامة قوانين الرئاسة , فخجل الملك , واعتنقه .
وقال إبراهيم بن إسحاق الحربي : كان عطاء بن أبي رباح عَبدًا أسودًا لامرأةٍ من أهل مكة , وكان أنفه كأنه باقلاة , قَالَ : وَجَاءَ سُليمان بن عبد الملك أمير المؤمنين إلى عطاء هو وابناه , فجلسوا إليه وهو يصلي , فلما صلى انفتل إليهم , فما زالوا يسألونه عن مناسك الحج , وقد حول قفاه إليهم , ثم قَالَ سُليمان لابنيه : قوما , فقاما , فقال : يا ابني لاتنيا في طلب العلم , فإني لا أنسى ذُلَّنا بين يدي هذا العبد الأسود 0
جاء ابن لسليمان بن عبد الملك , فجلس إلى جنب طاووس , فلم يلتفت إليه فقيل له : جلس إليك ابن أمير المؤمنين فلم تلتفت إليه ! قَالَ : أردت أن يعلم أن لله عبادًا يزهدون فيما في يديه .
من كتاب ((العبادة واجتهاد السلف فيها)).... للشيخ