عن المقال
التَّمَنِّي
التَّمَنِّي
وَالتَّمَنِّي وَالْأَمَلُ قَرِيْنَانِ, إِلَّا أَنَّ الْأَمَلَ صَاحِبَهُ يُقَدِّمُ بَينَ يَدَيْهِ سَبَبًا, بِخِلَافِ التَّمَنِّي فَصَاحِبُهُ يُرِيْدُ شَيْئًا بِلَا سَبَبٍ, وَالتَّمَنِّي يَنْقَسِمُ إِلَى مَحْمُودٍ وَمَذْمُومٍ. فَمَا كَانَ مِنْ أَمْرِ الْآخِرَةِ فَهُوَ مَحْمُودٌ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ لَنْ يَبْلُغَ الْجَنَّةَ بِعَمَلِهِ. فَهُوَ يَتَمَنَّى فَوْقَ عَمَلِهِ بَعْدَ اسْتِيْفَاءِ الْأَسْبَابِ الَّتِي أَمَرَ اللهُ بِهَا, فَطَمِعَ فِي رَحْمَةِ اللهِ؛ فَتَمَنَّى مَا لَا يَبْلُغُهُ عَمَلُهُ. وَمَا كَانَ مِنْ أَمْرِ الدُّنْيَا!فَإِنْ كَانَ عَوْنًا عَلَى الْآخِرَةِ فَهُوَ مَحْمُودٌ, وَإِنْ كَانَ مِنْ أَمْرِ الدُّنْيَا الْمَحْضِ فَهُوَ سَفَهٌ وَنَقْصٌ فِي الْعُقُولِ، فَإِنَّ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ضَرَّتَانِ إِنِ انْشَغَلَ بِوَاحِدَةٍ أَضَرَّ بِأُخْتِهَا, ثُمَّ لَنْ يَأْتِيْهِ مِمَّا تَمَنَّى إِلَّا مَا قُدِّرَ لَهُ, قَالَ تَعَالَى:{إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنْ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتْ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَاراً فَجَعَلْنَاهَا حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (24)} (1)
تَأَمَّلْ قَوْلَهُ تَعَالَى: (حَتَّى إِذَا أَخَذَتْ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا)أَيْ وَصَلُوا إِلَى قِمَّةِ الْغَفْلَةِ عَنِ اللهِ, وَاغْتَرُّوا بِمَا فِي أَيْدِيْهِمْ, وَنَسُوا مُوْجِدَهُمْ, وَفَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ, وَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ بَهَتَهُمْ أَمْرُ اللهِ, كَمَا قَالَ تَعَالَى(أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَاراً فَجَعَلْنَاهَا حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ) فَأَذْهَبَهُمُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ, وَأَذْهَبَ مَا بِأَيْدِيْهِمْ .
وَلَكِنْ مَنْ يَعْتَبِرُ بِآيَاتِ اللهِ, وَيَقِفُ عِنْدَ الْحَقَائِقِ الَّتِي أَوْقَفَ اللهُ عِبَادَهُ عَلَيْهَا كَمَا قَالَ تَعَالَى: (كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) .
فَالتَّمَنِّي الْمَحْمُودُ هُوَ رِضَى اللهِ وَالْجَنَّةُ مَعَ أَخْذِ الْأَسْبَابِ بِمَا أَمَرَ اللهُ بِهِ..
قَالَ تَعَالَى: {وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً (19)}(2)
وَقَالَ سُبْحَانَهُ: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَار خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً وَعْدَ اللَّهِ حَقّاً وَمَنْ أَصْدَقُ مِنْ اللَّهِ قِيلاً (122)}( 3)
ثُمَّ قَالَ سُبْحَانَهُ بَعْدَهَا مُبَاشَرَةً :{لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيّاً وَلا نَصِيراً (123)}(4 )
نَرَي الْكَثِيرَ اغْتَرَّ بِحِلْمِ اللهِ عَلَيْهِ, وَبِلُطْفِهِ بِهِ, وَبِإِسْبَاغِ النِّعَمِ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً مَعَ تَقْصِيرِهِ وَغَفْلَتِهِ, فَعَاشَ فِي الْأُمْنِيَّةِ الَّتِي عَاشَ فِيْهَا أَهْلُ الْكِتَابِ. كَمَا قَالَ تَعَالَى:{فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ وَدَرَسُوا مَا فِيهِ وَالدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ (169)} (5 )
قَالَ قَتَادَةُ :إِيْ وَاللهِ لَخَلْفُ سُوءٍ بَعْدَ أَنْبِيَائِهِمْ وَرُسُلِهِمْ , أَوْرَثَهُمُ اللهُ وَعَهِدَ إِلَيْهِمْ , تَمَنُّوا عَلَى اللهِ أَمَانِيَّ وَغِِرَّةً يَغْتَرُّونَ بِهَا, لاَ يَشْغَلُهُمْ شَيْءٌ عَنْ شَيْءٍ, وَلَا يَنْهَاهُمْ شَيْءٌ عَنْ ذَلِكَ, كُلَّمَا هَفَّ لَهُمْ شَيْءٌ مِنَ الدُّنْيَا أَكَلُوهُ, لَا يُبَالُونَ حَلَالًا كَانَ أَوْ حَرَامًا.( 6)
حَسَدُوا مَنْ فَوْقَهُمْ فِي الطَّاعَاتِ, وَبَغَوْا عَلَيْهِمْ؛ وَتَعَالَوا عَلَى مَنْ دُوْنَهُمْ فِي الْمَعَاصِي, وَقَتَرُوا عَنْهُمْ, وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا!
وَمِنَ الْخَيرِ تَمَنِّي فِعْلِ الْخَيرَاتِ مَعَ أَخْذِ أَسْبَابِهَا, فَإِنْ عَجَزَ عَنْ إِيْجَادِ السَّبَبِ يُؤْجَرُ عَلَى نِيَّتِهِ؛ وَكَذَلِكَ تَمَنِّي الشَّرِّ مَعَ الْعَجْزِ عَنْ إِتْيَانِهِ يَأْثَمُ صَاحِبُهُ.
عَنْ أَبِي كَبْشَةَ الْأَنْمَارِيِّ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ:« إِنَّمَا الدُّنْيَا لِأَرْبَعَةِ نَفَرٍ؛ عَبْدٍ رَزَقَهُ اللَّهُ مَالًا وَعِلْمًا, فَهُوَ يَتَّقِي فِيهِ رَبَّهُ, وَيَصِلُ فِيهِ رَحِمَهُ, وَيَعْلَمُ لِلَّهِ فِيهِ حَقًّا؛ فَهَذَا بِأَفْضَلِ الْمَنَازِلِ. وَعَبْدٍ رَزَقَهُ اللَّهُ عِلْمًا وَلَمْ يَرْزُقْهُ مَالًا, فَهُوَ صَادِقُ النِّيَّةِ يَقُولُ: لَوْ أَنَّ لِي مَالًا لَعَمِلْتُ بِعَمَلِ فُلَانٍ ؛ فَهُوَ بِنِيَّتِهِ فَأَجْرُهُمَا سَوَاءٌ. وَعَبْدٍ رَزَقَهُ اللَّهُ مَالًا وَلَمْ يَرْزُقْهُ عِلْمًا؛ فَهُوَ يَخْبِطُ فِي مَالِهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ, لَا يَتَّقِي فِيهِ رَبَّهُ, وَلَا يَصِلُ فِيهِ رَحِمَهُ, وَلَا يَعْلَمُ لِلَّهِ فِيهِ حَقًّا؛ فَهَذَا بِأَخْبَثِ الْمَنَازِلِ. وَعَبْدٍ لَمْ يَرْزُقْهُ اللَّهُ مَالًا وَلَا عِلْمًا فَهُوَ يَقُولُ: لَوْ أَنَّ لِي مَالًا لَعَمِلْتُ فِيهِ بِعَمَلِ فُلَانٍ, فَهُوَ بِنِيَّتِهِ فَوِزْرُهُمَا سَوَاءٌ ».(7)
فَإِذَا اسْتَغْرَقَ الْعَبْدُ فِي الْأَمَانِيِّ بِدُونِ ضَابِطٍ مِنْ شَرْعٍ، وَعَجَزَ عَنْ تَحْقِيْقِ الْأُمْنِيَةِ, حَسَدَ مَنْ فَوْقَهُ, وَتَعَالَى عَلَى مَنْ تَحْتَهُ، وَرُبَّمَا وَقَعَ فِي الْبَغْيِ .
فَأَوَّلُ جَرِيْمَةِ قَتْلٍ وَقَعَتْ بَينَ بَنِي الْإِنْسَانِ سَبَبُهَا الْأُمْنِيَّةُ الَّتِي يَصْعُبُ تَحْقِيْقُهَا. وَهِيَ كَمَا ذَكَرَ الْمُفَسِّرُونَ: أَنَّ اللهَ شَرَعَ لِآدَمَ أَنْ يُزَوِّجَ بَنَاتِهِ مِنْ بَنِيْهِ لِضَرُورَةِ الْحَالِ, وَكَانَ يُوْلَدُ فِي كُلِّ بَطْنٍ ذَكَرٌ وَأُنْثَى, فَكَانَ يُزَوِّجُ أُنْثَى هَذَا الْبَطْنِ لِذَكَرِ الْبَطْنِ الْآخَرِ, وَكَانَتْ أُخْتُ هَابِيْلَ دَمِيْمَةً وَأُخْتُ قَابِيْلٍ وَضِيْئَةً, فَتَمَنَّاهَا وَأَرَادَ أَنْ يَسْتَأْثِرَ بِهَا, فَمَنَعَهُ آدَمُ إِلَّا أَنْ يُقَرِّبَا قُرْبَانًا, فَقَرَّبَا, فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا, وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ كَمَا ذَكَرَ اللهُ قِصَّتَهُمَا.
قَالَ تَعَالَى:{وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَاناً فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنْ الآخَرِ قَالَ لأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنْ الْمُتَّقِينَ (27) لَئِنْ بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِي إِلَيْكَ لأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ (28) إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ (29) فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنْ الْخَاسِرِينَ (30)} ( 8)
فَالْأَمَانِيُّ تُورِثُ عَدَمَ الرِّضَى وَالسُّخْطَ عَلَى أَقْدَارِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ عِنْدَ مَنْ لَا إِيْمَانَ لَهُ, بِخِلَافِ الْمُؤْمِنِ الَّذِي يَعْلَمُ أَنَّ تَقْدِيْرَ الْأُمُورِ مِنْ عِنْدِ اللهِ سُبْحَانَهُ, وَأَنَّ الْعَبْدَ لَا يَنَالُ مِنَ الدُّنْيَا إِلَّا مَا قُدِّرَ لَهُ.
عَنْ صُهَيْبٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:« عَجَبًا لِأَمْرِ الْمُؤْمِنِ إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ وَلَيْسَ ذَاكَ لِأَحَدٍ إِلَّا لِلْمُؤْمِنِ, إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ, وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ ».( 9)
وَلِذَلِكَ إِذَا انْشَغَلَ الْإِنْسَانُ بِالْخَيرِ, وَأَخَذَ أَسْبَابَهُ مَعَ تَمَنِّي الْغَايَةِ فِي بُلُوغِ مُرَادِهِ نَالَ الْأَجْرَ الْعَظِيْمَ، وَبَلَّغَهُ اللهُ فَوقَ مَا تَمَنَّى, وَرَضَّاهُ بِمَا قُسِمَ لَهُ .
وَقْتُكَ هُوَ رَصِيْدُكَ وَرَأْسُ مَالِكَ :-
فَوَقْتُ الْإِنْسَانِ هُوَ عُمْرُهُ فِي الْحَقِيْقَةِ, وَهُوَ مَادَّةُ حَيَاتِهِ الْأَبَدِيَّةِ فِي النَّعِيْمِ الْمُقِيْمِ, وَمَادَّةُ الْمَعِيْشَةِ الضَّنْكِ فِي الْعَذَابِ الْأَلِيْمِ, وَهُوَ يَمُرُّ أَسْرَعَ مِنْ مَرِّ السَّحَابِ, فَمَا كَانَ مِنْ وَقْتِهِ للهِ وَبِاللهِ فَهُوَ حَيَاتُهُ وَعُمْرُهُ, وَغَيرُ ذَلِكَ لَيْسَ مَحْسُوبًا مِنْ حَيَاتِهِ, وَإِنْ عَاشَ فِيْهِ عَاشَ حَيَاةَ الْبَهَائِمِ, فَإِذَا قَطَعَ وَقْتَهُ فِي الْغَفْلَةِ وَالسَّهْوِ وَالْأَمَانِيِّ الْبَاطِلَةِ, أَوْ كَانَ خَيرُ مَا قَطَعَهُ بِهِ النَّومَ وَالْبَطَالَةَ, فَمَوْتُ هَذَا خَيرٌ لَهُ مِنْ حَيَاتِهِ, وَإِذَا كَانَ الْعَبْدُ وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ- لَيْسَ لَهُ مِنْ صَلَاتِهِ إِلَّا مَا عَقِلَ مِنْهَا, فَلَيْسَ لَهُ مِنْ عُمْرِهِ إِلَّا مَا كَانَ فِيْهِ بِاللهِ وَللهِ.
فَعُمْرُكَ الَّذِي هُوَ رَصِيْدُ عَمَلِكَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ يَأْتِي الشَّيْطَانُ فَيُضَيِّعُهُ عَلَيْكَ بِالْأَمَانِيِّ الْكَاذِبَةِ, فَإِذَا بِالْعَبْدِ يُؤَمِّلُ وَيَتَمَنَّى, حَتَّى يَهْجُمَ عَلَيْهِ الْمَوْتُ فَيَرَى أَنَّهُ أَضَاعَ دِيْنَهُ وَدُنْيَاهُ.
وَلِذَلِكَ انْظُرْ إِلَى حَالِ الشَّيْطَانِ مَعَ أَوْلِيَاءِهِ قَالَ تَعَالَى{.. وَإِنْ يَدْعُونَ إِلاَّ شَيْطَاناً مَرِيداً (117) لَعَنَهُ اللَّهُ وَقَالَ لأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيباً مَفْرُوضاً (118) وَلأضِلَّنَّهُمْ وَلأمَنِّيَنَّهُمْ وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الأَنْعَامِ وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وَمَنْ يَتَّخِذْ الشَّيْطَانَ وَلِيّاً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَاناً مُبِيناً (119) يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمْ الشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُوراًً (120)}( 10)
انْظُرْ إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى(يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ) ثُمَّ قَالَ عَزَّ وَجَلَّ(وَمَا يَعِدُهُمْ الشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُوراً)
كَمْ مِنْ أُنَاسٍ أَقْعَدَهُمُ الْوَهْمُ, وَأَلْهَتْهُمُ الْأَمَانِيُّ, وَشَغَلَهُمُ الْأَمَلُ؛ فَضَيَّعُوا الْعُمْرَ بَدُونِ فَائِدَةٍ. فَإِذَا الْأَمَانِيُّ وَالْآمَالُ كَانَتْ سَرَابًا, وَجَاءَ الْمَوْتُ بَغْتَةً حِينَ لَا يَنْفَعُ النَّدَمُ.
وَإِلَيْكَ هَذَا الْمِثَالُ الَّذِي ضَرَبَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْمُتَمَنِّي, وَالْمُؤَمِّلِ, وَهُوَ غَافِلٌ عَنْ أَنْيَابِ الْمَنَايَا..
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ:« خَطَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَطًّا مُرَبَّعًا؛ وَخَطَّ خَطًّا فِي الْوَسَطِ خَارِجًا مِنْهُ؛ وَخَطَّ خُطَطًا صِغَارًا إِلَى هَذَا الَّذِي فِي الْوَسَطِ مِنْ جَانِبِهِ الَّذِي فِي الْوَسَطِ. وَقَالَ: هَذَا الْإِنْسَانُ, وَهَذَا أَجَلُهُ مُحِيطٌ بِهِ أَوْ قَدْ أَحَاطَ بِهِ, وَهَذَا الَّذِي هُوَ خَارِجٌ أَمَلُهُ, وَهَذِهِ الْخُطَطُ الصِّغَارُ الْأَعْرَاضُ؛ فَإِنْ أَخْطَأَهُ هَذَا نَهَشَهُ هَذَا, وَإِنْ أَخْطَأَهُ هَذَا نَهَشَهُ هَذَا..»(11 )
فَأَمَّا التَّمَنِّي الَّذِي هُوَ مِنْ شِيَمِ الْمُفْلِسِينَ, وَمِنْ طِبَاعِ الْبَطَّالِينَ, مِمَّا يَرِدُ مِنَ الْخَطَرَاتِ وَالْفِكْرِ, فَإِمَّا وَسَاوِسُ شَيْطَانِيَّةٌ, وَإِمَّا أَمَانِيُّ بَاطِلَةٌ, وَخُدَعٌ كَاذِبَةٌ, بِمَنْزِلَةِ خَوَاطِرِ الْمُصَابِينَ فِي عُقُولِهِمْ مِنَ السُّكَارَى, وَالْمَحْشُوشِينَ, وَالْمُوَسْوِسِينَ, فَهَذَا هُوَ الْبَاطِلُ بِعَيْنِهِ، فَصَاحِبُهُ لَا نَالَ لَذَّةً فِي الدُّنْيَا, وَلَا نَعِيْمًا فِي الْآخِرَةِ.
قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ:\" إِنَّ الْإِيْمَانَ لَيْسَ بِالتَّحَلِّي وَلَا بِالتَّمَنِّي, إِنَّ الْإِيْمَانَ مَا وَقَرَ فِي الْقَلْبِ، وَصَدَّقَهُ الْعَمَلُ \".( 12)
أَمَّا هَؤُلَاءِ الَّذِيْنَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ, وَانْقَطَعُوا عَنْ خَالِقِهِمْ وَبَارِيْهِمْ؛ لِسَانُ حَالِ هَؤُلَاءِ يَقُولُ عِنْدَ انْكِشَافِ الْحَقَائِقِ :
|
أَخِي الْحَبِيْبَ: اعْلَمْ أَنَّ الْأَمَانِيَّ بَحْرُ الْمَفَالِيْسِ, وَأَنَّ الْمُتَمَنِّي قَدْ يَكُونُ قَاصِرَ الْعَقْلِ, ضَعِيْفَ الدِّيْنِ, يَنْظُرُ إِلَى الْحَيَاةِ بِمِنْظَارٍ قَاصِرٍ؛ فَإِذَا عَايَنَ الْحَقِيْقَةَ نَدِمَ عَلَي مَا تَمَنَّى كَمَا وَقَعَ مَعَ قَوْمِ قَارُونَ، قَالَ تَعَالَى:{فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (79) وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً وَلا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الصَّابِرُونََ (80)}(13 )
لَمَّا نَظَرَ هَؤُلَاءِ البُسَطَاءُ الْجُهَّالُ الَّذِيَن يَنْظُرُونَ إِلَى الدُّنْيَا بِمِنْظَارِ السَّاعَةِ, وَعَينِ الْحَاِضِر, لَمَّا نَظَرُوا إِلَى الْمَكَانَةِ الَّتِي تَبَوَّءَهَا قَارُونُ؛ انْخَلَعَتْ قُلُوبُهُمْ رَغَبًا لِلْمَكَانَةِ الَّتِي عَلَيْهَا, حَتَّى قَالُوا: (يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ)
فَإِذَا بِهَؤُلَاءِ الَّذِيْنَ تَمَنَّوا مَكَانَهُ؛ لَمَّا خَسَفَ اللهُ بِهِ, وَبِأَمْوَالِهِ وَبِدُورِهِ, نَدِمُوا عَلَى مَا تَمَنَّوا. فَهُمْ الَّذِيْنَ تَمَنَوا! وَهُمُ الَّذِيْنَ نَدِمُوا عَلَى الْأُمْنِيَةِ! وَهَذَا دَلَالَةٌ عَلَى قُصُورِ عُقُولِهِمْ, قَالَ تَعَالَى: {فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنْ المُنْتَصِرِينَ (81) وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونََ (82)}(14 )
وَكَذَلِكَ تَرَى الْمُنَافِقِينَ لَمَّا عَاشُوا فِي حَيَاتِهِمْ عَلَى الْأَمَانِيِّ الْكَاذِبَةِ وَاغْتَرُّوا بِهَا, حُرِمُوا أَعْظَمَ نِعْمَةً! نِعْمَةَ الْإِيْمَانِ؛ بَلْ كَانَ إِيْمَانُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَمِيْضًا سَرْعَانَ مَا يَنْطَفِئُ حَتَّى سُلِبُوا النُّورَ بِالْكُلِّيَّةِ, وَكَذَلِكَ حَالُهُمْ فِي الْآخِرَةِ.
أَلَا تَعْلَمُ أَنَّهُمْ لَمَّا حُرِمُوا النُّورَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ, بِخِلَافِ أَهْلِ الْإِيْمَانِ, كَانَ مِنْ ضِمْنِ أَسْبَابِ حِرْمَانِهِمْ: اسْتِغْرَاقُهُمْ فِي الْأَمَانِيِّ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ (13) يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمْ الأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُُ (14)}( 15)
وَرُبَّمَا تَتَحَقَّقُ لِلْإِنْسَانِ أَمْنِيَّتُهُ مِنَ الدُّنْيَا, وَلَا يُسْعِفُهُ الْوَقْتُ فِي اسْتِعْمَالِهَا, أَوْ لَا يَجِدُ الصِّحَّةَ الَّتِي يُقِيْمُ بِهَا هَذِهِ الْمُتَعَ الَّتِي تَمَنَّاهَا .
حُكِيَ أَنَّ رَجُلًا كَانَ فَقِيرًا فِي شَبَابِهِ, وَكَانَ يَتَمَنَّى الْمَالَ, وَالْعَبِيْدَ, وَالْجَوَارِيَ, وَالْمُتَعَ؛ فَلَمَّا جَاوَزَ السَّبْعِيْنَ اسْتَغْنَى, وَمَلَكَ, وَاشْتَرَى الْعَبِيْدَ الْأَتْرَاكَ, وَالْجَوَارِيَ مِنَ الرُّومِ وَغَيرِهَا؛ فَإِذَا الْعُمْرُ قَدْ وَلَّى, وَالصِّحَّةُ قَدْ تَلَفَتْ فَقَالَ هَذِهِ الْأَبْيَاتِ:
|
فَانْظُرْ إِلَى حَالِ هَذَا الرَّجُلِ نَالَ مَا تَمَنَّاهُ, فَإِذَا أَمَانِيُّهُ تَحَوَّلَتْ إِلَى عَذَابٍ! فَمَا أَشْقَى حَالَ هَؤُلَاءِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ وُرُودَ الْخَاطِرِ لَا يَضُرُّ؛ وَإِنَّمَا يَضُرُّ اسْتِدْعَاؤُهُ وَمُحَادَثَتُهُ. فَالْخَاطِرُ كَالْمَارِّ عَلَى الطَّرِيْقِ فَإِنْ تَرَكْتَهُ مَرَّ, وَانْصَرَفَ عَنْكَ؛ وَإِنِ اسْتَدْعَيْتَهُ سَحَرَكَ بِحَدِيْثِهِ, وَخُدَعِهِ, وَغُرُورِهِ, وَهُوَ أَخَفُّ شَيْءٍ عَلَى النَّفْسِ الْفَارِغَةِ الْبَاطِلَةِ, وَأَثْقَلُ شَيْءٍ عَلَى الْقَلْبِ وَالنَّفْسِ الشَّرِيْفَةِ السَّمَاوِيَّةِ الْمُطْمَئِنَّةِ. فَهُنَاكَ نُفُوسٌ تُسَبِّحُ عِنْدَ الْعَرْشِ، وَهُنَاكَ نُفُوسٌ لَا تَتَعَدَّى الْحُشَّ (18 ) .
وَقَدْ أَحْسَنَ مَنْ قَالَ :-
|
التَّمَنِّي عَلَى اللهِ .
فَإِنَّ الْعَبْدَ إِذَا تَمَنَّى عَلَى اللهِ فَلْيَسْتَكْثِرْ, فَإِنَّ اللهَ لَا يُعْجِزُهُ شَيْءٌ؛ فَخَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بِيَدِهِ؛ وَهُوَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَهُ الْآخِرَةُ وَالْأُوْلَى؛ يُؤْتِي الْعَبْدَ فَوْقَ مَا يَتَمَنَّى كَمَا قَالَ تَعَالَى{وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ (34)}(19 )
فَأَخْلِصْ عَمَلَكَ للهِ, وَتَمَنَّ ثُمَّ تَمَنَّ... مِمَّنْ بِيَدِهِ الْآخِرَةِ وَالْأُوْلَى. الْخَلْقُ جَمِيْعًا إِلَيْهِ فُقَرَاءٌ, وَهُوَ الْغَنِيُّ, اسْتَمِعْ لِهَذَا الْحَدِيْثِ.
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:« يَدُ اللَّهِ مَلْأَى لَا يَغِيضُهَا (20 )نَفَقَةٌ سَحَّاءُ(21 ) اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ, وَقَالَ: أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْفَقَ مُنْذُ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ فَإِنَّهُ لَمْ يَغِضْ مَا فِي يَدِهِ, عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ, وَبِيَدِهِ الْأُخْرَى الْمِيزَانُ؛ يَخْفِضُ وَيَرْفَعُ ». (22 )
بَلِ اسْتَمِعْ لِنِدَائِهِ عَلَى عِبَادِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
عَنْ أَبِي ذَرٍّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا رَوَى عَنْ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَنَّهُ قَالَ :« يَا عِبَادِي إِنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي وَجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرَّمًا؛ فَلَا تَظَالَمُوا. يَا عِبَادِي: كُلُّكُمْ ضَالٌّ إِلَّا مَنْ هَدَيْتُهُ فَاسْتَهْدُونِي أَهْدِكُمْ. يَا عِبَادِي: كُلُّكُمْ جَائِعٌ إِلَّا مَنْ أَطْعَمْتُهُ فَاسْتَطْعِمُونِي أُطْعِمْكُمْ. يَا عِبَادِي: كُلُّكُمْ عَارٍ إِلَّا مَنْ كَسَوْتُهُ فَاسْتَكْسُونِي أَكْسُكُمْ. يَا عِبَادِي: إِنَّكُمْ تُخْطِئُونَ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ, وَأَنَا أَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا فَاسْتَغْفِرُونِي أَغْفِرْ لَكُمْ. يَا عِبَادِي: إِنَّكُمْ لَنْ تَبْلُغُوا ضَرِّي فَتَضُرُّونِي , وَلَنْ تَبْلُغُوا نَفْعِي فَتَنْفَعُونِي, يَا عِبَادِي: لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَتْقَى قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنْكُمْ مَا زَادَ ذَلِكَ فِي مُلْكِي شَيْئًا. يَا عِبَادِي: لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَفْجَرِ قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِنْ مُلْكِي شَيْئًا. يَا عِبَادِي: لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ قَامُوا فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ فَسَأَلُونِي فَأَعْطَيْتُ كُلَّ إِنْسَانٍ مَسْأَلَتَهُ, مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِمَّا عِنْدِي إِلَّا كَمَا يَنْقُصُ الْمِخْيَطُ إِذَا أُدْخِلَ الْبَحْرَ. يَا عِبَادِي: إِنَّمَا هِيَ أَعْمَالُكُمْ أُحْصِيهَا لَكُمْ ثُمَّ أُوَفِّيكُمْ إِيَّاهَا؛ فَمَنْ وَجَدَ خَيْرًا فَلْيَحْمَدْ اللَّهَ؛ وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ فَلَا يَلُومَنَّ إِلَّا نَفْسَهُ.( 23)
انْظُرْ إِلَى عَظِيْمِ فَضْلِهِ عَلَى عِبَادِهِ؛ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مَنَعَ نَفْسَهُ مِنَ الظُّلْمِ لِعِبَادِهِ كَمَا قَالَ عَزَّ وَجَلَّ:{ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعالَمِينَ} ( 24)
وَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ :{وَمَنْ يَعْمَلْ مِنْ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا يَخَافُ ظُلْماً وَلا هَضْماً (112)} ( 25)
وَقَالَ تَعَالَى :{إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ } ( 26)
فَهُوَ سُبَحَانَهُ وَتَعَالَى -رَغْمَ قُدْرَتِهِ عَلَيْهِ، وَلَا يُسَمَّى ظُلْمًا لِأَنَّهُ مُتَصَرِّفٌ فِي حَقِّهِ سُبْحَانَهُ- إِلَّا أَنَّهُ لَمْ يَفْعَلْهُ فَضْلًا وَتَكَرُّمًا وَإِحْسَانًا مِنْهُ إِلَى عِبَادِهِ .
ثُمَّ انْظُرْ كَيْفَ دَعَاهُمْ إِلَيْهِ, وَقَرَّبَهُمْ مِنْهُ؛ فَهُوَ الَّذِي يَهْدِي, وَهُوَ الَّذِي يُطْعِمُ, وَهُوَ الَّذِي يُكْسِي, وَهُوَ الَّذِي يَغْفِرُ الذُّنُوبَ .
ثُمَّ انْظُرْ كَيْفَ بَيَّنَ لِعِبَادِهِ أَنَّهُمْ جَمِيْعًا عَجَزَةٌ, وَأَنَّهُمْ فُقَرَاءٌ إِلَيهْ ِسُبْحَانَهُ, وَأَنَّ هِدَايَتَهُمْ لَنْ تَزِيْدَ فِي مُلْكِ اللهِ شَيْئًا, وَأَنَّ ضَلَالَهُمْ لَنْ يُنْقِصَ مِنْ مُلْكِ اللهِ شَيْئًا, وَأَنَّ الْخَلْقَ جَمِيْعًا لَوْ وَقَفُوا فِي مَكَانٍ وَاحِدٍ وَاخْتَلَفُوا فِي الْمَسْأَلَةِ لَأَعْطَى كُلَّ وَاحِدٍ مَا أَرَادَ؛ دُوْنَ أَنْ يُنْقَصَ مِمَّا عِنْدَهُ شِيْءٌ! ثُمَّ أَخْبَرَهُمْ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ يُحْصِي عَلَيْهِمُ الْأَعْمَالَ، ثُمَّ يُحَاسِبُهُمْ بِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَمَنْ وَجَدَ خَيرًا فَلْيَحْمَدِ اللهَ، وَمَنْ وَجَدَ غَيرَ ذَلِكَ فَلَا يَلُوْمَنَّ إِلَّا نَفْسَهُ .
أَخِي الْحَبِيْبَ: عَظِّمِ الْأُمْنِيَّةَ وَزِدْ فِي رَغَبِكَ وَرَهَبِكَ, وَتَمَنَّى مِنْ رَبِّكَ مَا شِئْتَ فَإِنَّهُ لَا يُعْجِزُهُ شَيْءٌ .
رَفَعَ اللهُ عَنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ الْإِصْرَ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَى الْأُمَمِ الْمَاضِيَةِ, فَغَفَرَ ذُنُوبَهَا وَمَحَا سَيِّئَاتِهَا بِأَقْرَبِ رُجُوعٍ.
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : لَمَّا نَزَلَتْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ [لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ] قَالَ فَاشْتَدَّ ذَلِكَ عَلَى أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَتَوْا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ بَرَكُوا عَلَى الرُّكَبِ فَقَالُوا : أَيْ رَسُولَ اللَّهِ كُلِّفْنَا مِنْ الْأَعْمَالِ مَا نُطِيقُ , الصَّلَاةَ وَالصِّيَامَ وَالْجِهَادَ وَالصَّدَقَةَ وَقَدْ أُنْزِلَتْ عَلَيْكَ هَذِهِ الْآيَةُ وَلَا نُطِيقُهَا , قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَتُرِيدُونَ أَنْ تَقُولُوا كَمَا قَالَ أَهْلُ الْكِتَابَيْنِ مِنْ قَبْلِكُمْ : سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا , بَلْ قُولُوا : سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ . قَالُوا : سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ . فَلَمَّا اقْتَرَأَهَا الْقَوْمُ ذَلَّتْ بِهَا أَلْسِنَتُهُمْ فَأَنْزَلَ اللَّهُ فِي إِثْرِهَا [آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ] فَلَمَّا فَعَلُوا ذَلِكَ نَسَخَهَا اللَّهُ تَعَالَى فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ [لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا] قَالَ: نَعَمْ. [رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا] قَالَ: نَعَمْ. [رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ] قَالَ: نَعَمْ. [وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ] قَالَ: نَعَمْ. ( 27)
ثُمَّ تَتَعَاظَمُ رَحْمَةُ اللهِ بِعَبْدِهِ عِنْدَ لِقَائِهِ, فَيرَى مِنَ اللهِ الْبِرَّ وَالْإِحْسَانَ وَالصَّفْحَ وَالْغُفْرَانَ؛ فَيَتَمَنَّى أَنِ ازْدَادَ فِي طَاعَتِهِ, وَتَفَانَى فِي بَذْلِ النَّفْسِ فَمَا دُوْنَهَا.
فَهَذَا الشَّهِيْدُ الَّذِي أَكْرَمَهُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ فَقَدَّمَ رُوحَهُ وَصَدَقَ مَعَ اللهِ أَتَدْرِي مَا أُمْنِيَتُهُ! اسْتَمِعْ لِهَذَا الْحَدِيْثِ.
عَنْ أَنَس بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :« مَا أَحَدٌ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ يُحِبُّ أَن يَرْجِعَ إِلَى الدُّنْيَا وَلَهُ مَا عَلَى الْأَرْضِ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا الشَّهِيدُ يَتَمَنَّى أَنْ يَرْجِعَ إِلَى الدُّنْيَا فَيُقْتَلَ عَشْرَ مَرَّاتٍ لِمَا يَرَى مِنْ الْكَرَامَةِ ». ( 28)
وَقَدْ نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ تَمَنِّي الْمَوْتِ فِي الدُّنْيَا عَسَى أَنْ يُضَافَ إِلَى حَسَنَاتِهِ حَسَنَاتٌ, أَوْ يُمْحَى مِنْ سَيِّئَاتِهِ, وَمَا تَمَنَّى الشَّهِيْدُ ذَلِكَ إِلَّا لَمَّا تَعَاظَمَ أَجْرُ اللهِ لَهُ.
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:« لَا يَتَمَنَّى أَحَدُكُمْ الْمَوْتَ إِمَّا مُحْسِنًا فَلَعَلَّهُ يَزْدَادُ وَإِمَّا مُسِيئًا فَلَعَلَّهُ يَسْتَعْتِبُ ». (29 )
وَكُلَّمَا دَنَا الْعَبْدُ مِنْ رَبِّهِ, قَرَّبَهُ اللهُ إِلَيْهِ وَعَظَّمَهُ وَأَدْنَاهُ, وَكَانَتْ مَعِيَّةُ اللهِ مَعَهُ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ, اسْتَمِعْ لِهَذَا الْحَدِيْثِ.
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:« يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي وَأَنَا مَعَهُ إِذَا ذَكَرَنِي.
فَإِنْ ذَكَرَنِي فِي نَفْسِهِ ذَكَرْتُهُ فِي نَفْسِي, وَإِنْ ذَكَرَنِي فِي مَلَإٍ ذَكَرْتُهُ فِي مَلَإٍ خَيْرٍ مِنْهُمْ, وَإِنْ تَقَرَّبَ إِلَيَّ بِشِبْرٍ تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ ذِرَاعًا, وَإِنْ تَقَرَّبَ إِلَيَّ ذِرَاعًا تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ بَاعًا, وَإِنْ أَتَانِي يَمْشِي أَتَيْتُهُ هَرْوَلَةً »( 30).(31 )
أَمَانِي لَا تَتَحَقَّقُ
ثُمَّ مَاذَا بَعْدَ التَّمَنِّي وَالْأَمَانِيِّ وَالْأَحْلَامِ! سَاعَاتٌ تَضِيْعُ, وَعُمْرٌ يَنْقَضِي, رُبَّمَا تَحَقَّقَ مَا تَمَنَّاهُ الْعَبْدُ وَرُبَّمَا لَا يَتَحَقَّقُ, وَيَظَلُّ الْعَبْدُ غَارِقًا فِي أَمَانِيِّهِ حَتَّى يَهْجُمَ عَلَيْهِ الْمَوْتُ!!
أَتَدْرِي مَا تَكُونُ عِنْدَهَا الْأُمْنِيَةُ! الرُّجُوعُ إِلَى الدُّنْيَا مَرَّةً أُخْرَي! لِمَاذَا؟ لِيُدْرِكْ هَذَا الْمِسْكِينُ مَا فَاتَهُ فِي الْحَيَاةِ مِنْ عَمَلٍ صَالِحٍ, وَمِنْ قُرْبَةٍ إِلَى اللهِ, وَهَذَا حَالُهُ كَمَا وَصَفَ رَبُّنَا سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمْ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (99) لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ كَلاَّ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (100)} ( 32)
انْظُرْ إِلَى الْجَوَابِ (كَلاَّ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا)فَلَا تَنْفَعُ الْأَمَانِيُّ وَلَا يُفِيْدُ النَّدَمُ.
بَلْ نَرَى مِنَ الصَّالِحِينَ مَنْ يَتَمَنَّى الرُّجُوعَ لِمَا يَرَى مِنْ فَضْلِ اللهِ عَلَيْهِ فَيَتَمَنَّى أَنْ يَزِيْدَ فِي الْعَمَلِ! وَلَكِنْ لَا تَتَحَقَّقُ الْأُمْنِيَّةُ .
عَنْ مَسْرُوقٍ قَالَ: سَأَلْنَا عَبْدَ اللَّهِ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ (وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ) قَالَ: أَمَا إِنَّا قَدْ سَأَلْنَا عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ: أَرْوَاحُهُمْ فِي جَوْفِ طَيْرٍ خُضْرٍ, لَهَا قَنَادِيلُ مُعَلَّقَةٌ بِالْعَرْشِ, تَسْرَحُ مِنْ الْجَنَّةِ حَيْثُ شَاءَتْ, ثُمَّ تَأْوِي إِلَى تِلْكَ الْقَنَادِيلِ فَاطَّلَعَ إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ اطِّلَاعَةً, فَقَالَ هَلْ تَشْتَهُونَ شَيْئًا قَالُوا أَيَّ شَيْءٍ نَشْتَهِي وَنَحْنُ نَسْرَحُ مِنْ الْجَنَّةِ حَيْثُ شِئْنَا, فَفَعَلَ ذَلِكَ بِهِمْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ ؛ فَلَمَّا رَأَوْا أَنَّهُمْ لَنْ يُتْرَكُوا مِنْ أَنْ يُسْأَلُوا؛ قَالُوا يَا رَبِّ: نُرِيدُ أَنْ تَرُدَّ أَرْوَاحَنَا فِي أَجْسَادِنَا, حَتَّى نُقْتَلَ فِي سَبِيلِكَ مَرَّةً أُخْرَى؛ فَلَمَّا رَأَى أَنْ لَيْسَ لَهُمْ حَاجَةٌ تُرِكُوا.( 33)
وعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: لَقِيَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لِي: يَا جَابِرُ مَا لِي أَرَاكَ مُنْكَسِرًا؛ قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ اسْتُشْهِدَ أَبِي قُتِلَ يَوْمَ أُحُدٍ, وَتَرَكَ عِيَالًا, وَدَيْنًا. قَالَ: أَفَلَا أُبَشِّرُكَ بِمَا لَقِيَ اللَّهُ بِهِ أَبَاكَ؛ قَالَ: قُلْتُ بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: مَا كَلَّمَ اللَّهُ أَحَدًا قَطُّ إِلَّا مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ؛ وَأَحْيَا أَبَاكَ فَكَلَّمَهُ كِفَاحًا. فَقَالَ يَا عَبْدِي تَمَنَّ عَلَيَّ أُعْطِكَ قَالَ يَا رَبِّ تُحْيِينِي فَأُقْتَلَ فِيكَ ثَانِيَةً؛ قَالَ الرَّبُّ عَزَّ وَجَلَّ: إِنَّهُ قَدْ سَبَقَ مِنِّي أَنَّهُمْ إِلَيْهَا لَا يُرْجَعُونَ. قَالَ: وَأُنْزِلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ (وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا) الْآيَةَ.( 34)
ثُمَّ مَاذَا بَعْدُ!!
وَهُوَ فِي قَبرِهِ يَتَمَنَّى! أَتَرَي مَا الْأُمْنِيَةُ! يَتَمَنَّى رَكْعَتَينِ خَفِيْفَتَينِ! وَلَوْ خُيِّرَ بَيْنَهُمَا وَبَينَ الدُّنْيَا وَمَا فِيْهَا إِلَى قِيَامِ السَّاعَةِ, لَاخْتَاَر َالرَّكْعَتَينِ.
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: مَرَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى قَبْرٍ دُفِنَ حَدِيثاً فَقَالَ: رَكْعَتَان خَفيفَتَان, مِمَّا تَحْقِرون, وتَنْفِلُون, يَزيدُهما هَذَا فِي عَمَلِه, أحبّ إِلَيْهِ مِنْ بَاقِي دُنْيَاكُم .( 35)
ثُمَّ مَاذَا بَعْدُ! أَتَدْرِي مَا هِيَ أَمَانِيُّ أَهْلِ النَّارِ! أَمَانِيُّهُمُ الْهَلَاكُ !
قَالَ تَعَالَى{وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ (77)} (36 )
فَيَا عَبْدَ اللهِ كُلَّمَا رَاوَدَتْكَ أُمْنِيَةٌ فَاعْرِضْهَا عَلَى شَرْعِ اللهِ؛ فَإِنْ كَانَتْ للهِ فَزَيِّنْهَا بِالْإِخْلَاصِ وَالْعَمَلِ, وَإِنْ كَانَتْ لِغَيرِ اللهِ؛ فَأَغْلِقْ عَنْهَا قَلْبَكَ وَعَقْلَكَ, وَاطْرَحْهَا جَانِبًا, فَإِنَّ الِانْشِغَالَ بِهَا مَهْلَكَةٌ عَظِيْمَةٌ .
إِيَّاكَ وَالْأَمَانِيَّ الَّتِي هِيَ أَشْبَهُ بِالْأَحْلَامِ, فَإِنَّهَا مَصْيَدَةُ إِبْلِيْسَ لَكَ لِيُكَدِّرَ عَلَيْكَ قَلْبَكَ, وَيُضَيِّعَ عُمْرَكَ, وَيُعَطِّلَ سَيْرَكَ إِلَى اللهِ. اجْعَلْ أَمَانِيَّكَ وَاقِعًا وَحَقِيْقَةً, حَقِّقْ مِنْهَا مَا اسْتَطَعْتَ فِي الدُّنْيَا قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَ الْوَقْتُ الَّذِي لَا تُحَقَّقُ فِيْهِ أُمْنِيَّةٌ .
قَالَ إِبْرَاهِيْمُ التَّيْمِيُّ:\" مَثَّلْتُ نَفْسِي فِي النَّارِ أُعَالِجُ أَغْلَالَهَا وَسَعِيرَهَا وَآكُلُ مِنْ سَخِيْنِهَا, وَأَشْرَبُ مِنْ زَمِهَرِيْرِهَا, فَقُلْتُ: يَا نَفْسِي أَيُّ شَيْءٍ تَشْتَهِيْنَ؟, قَالَتْ: أَرْجِعُ إِلَى الدُّنْيَا أَعْمَلُ عَمَلًا أَنْجُو بِهِ مِنْ هَذَا الْعَذَابِ. وَمَثَّلْتُ نَفْسِي فِي الْجَنَّةِ مَعَ حُورِهَا, وَأَلْبَسُ مِنْ سُنْدُسِهَا وَإِسْتَبْرَقِهَا وَحَرِيْرِهَا, فَقُلْتُ: يَا نَفْسِي أَيُّ شَيْءٍ تَشْتَهِينَ؟ قَالَتْ: أَرْجِعُ إِلَى الدُّنْيَا فَأَعْمَلُ عَمَلًا أَزْدَادُ مِنْ هَذَا الثَّوَابِ, فَقُلْتُ: أَنْتِ فِي الدُّنْيَا وَفِي الْأُمْنِيَّةِ \".( 37)
أَخِي الْحَبِيْبَ: رَغْمَ تَكَاثُرِ الذُّنُوبِ وَالاسْتِغْرَاقِ فِي الْأَمَانِيِّ إِلَّا أَنَّ بَابَ التَّوْبَةِ مَفْتُوحٌ, فَعَجِّلْ قَبْلَ حُلُولِ الْأَجَلِ وَانْقِطَاعِ الْعَمَلِ, أَوِ الْوَقْتِ الَّذِي لَا تَنْفَعُ فِيْهِ الْأُمْنِيَةُ وَلَا يَطْلُبُهُ الْأَمَلُ .
عَنْ أَبِي مُوسَى عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَبْسُطُ يَدَهُ بِاللَّيْلِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ النَّهَارِ وَيَبْسُطُ يَدَهُ بِالنَّهَارِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ اللَّيْلِ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا .( 38)
أَمَانِي تَتَحَقَّقُ
فَإِذَا عَجَزَ الْإِنْسَانُ عَنِ الْعَمَلِ مَعَ أَخْذِ أَسْبَابِهِ, ثُمَّ تَمَنَّى لَوْ قَدَرَ عَلَى الْعَمَلِ أَنْ يَأْتِيَهُ؛ أَعْطَاهُ اللهُ أَجْرَهُ. اسْتَمِعْ لِهَذَا الْحَدِيْثِ: عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ فِي غَزَاةٍ فَقَالَ إِنَّ أَقْوَامًا بِالْمَدِينَةِ خَلْفَنَا مَا سَلَكْنَا شِعْبًا وَلَا وَادِيًا إِلَّا وَهُمْ مَعَنَا فِيهِ حَبَسَهُمْ الْعُذْرُ .( 39)
وَكَذَلِكَ مَا مَرَّ بِنَا مِنْ حَدِيْثِ أَبِي كَبْشَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [وَعَبْدٍ رَزَقَهُ اللَّهُ عِلْمًا, وَلَمْ يَرْزُقْهُ مَالًا فَهُوَ صَادِقُ النِّيَّةِ يَقُولُ: لَوْ أَنَّ لِي مَالًا لَعَمِلْتُ بِعَمَلِ فُلَانٍ, فَهُوَ بِنِيَّتِهِ فَأَجْرُهُمَا سَوَاءٌ ] فَهَذِهِ الْأَمَانِيُّ إِنْ لَمْ تَتَحَقَّقْ فِي الدُّنْيَا, يَأْخُذْ صَاحِبُهَا الْأَجْرَ فِي الْآخِرَةِ إِنْ صَدَقَتْ نِيَّتُهُ.
هَلْ تَعْلَمْ يَا عَبْدَ اللهِ أَنَّ النَّعِيْمَ فِي الْجَنَّةِ بِالْأُمْنِيَةِ قَالَ تَعَالَى:{ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الأَنفُسُ وَتَلَذُّ الأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (71)} ( 40)
فَمَا تَمَنَّى مِنْ طَعَامٍ وَشَرَابٍ وَوَصْلٍ؛ فَالْكُلُّ مُجَابٌ .
وَهَذَا عَبْدٌ نَجَى مِنَ النَّارِ بَعْدَ أَنْ لَاقَى الْأَهْوَالَ, حَتَّى تَخَيَّلَ أَنَّهُ مَا نَجَى غَيرُهُ, وَكَانَتْ هَذِهِ غَايَةَ أُمْنِيَتِهِ, أَنْ يَنْجُوَ مِنَ النَّارِ, وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى أَمَانِيْهِ بَعْدَ أَنْ أَنْجَاهُ اللهُ مِنَ النَّارِ:
عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: آخِرُ مَنْ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ رَجُلٌ فَهْوَ يَمْشِي مَرَّةً وَيَكْبُو مَرَّةً, وَتَسْفَعُهُ النَّارُ مَرَّةً فَإِذَا مَا جَاوَزَهَا الْتَفَتَ إِلَيْهَا فَقَالَ: تَبَارَكَ الَّذِي نَجَّانِي مِنْكِ, لَقَدْ أَعْطَانِي اللَّهُ شَيْئًا مَا أ