الحجُّ والذِّكر
لقد شرع الله لعباده الحجَّ لإقامة ذكره سبحانه، فالذِّكرُ هو مقصودُ الحجِّ بل هو المقصودُ في جميع الطاعات، فما شُرعت العبادات إلاَّ لأجله وما تقرَّب المتقرِّبون إلى الله بمثله، والحجُّ كلُّه ذِكرٌ لله.
قال الله تعالى: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (27) لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ}(1)، وقال تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ (198) ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (199) فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ (200) وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (201) أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ (202) وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (203)} (2).
فتأمَّل هذه الوصيَّة العظيمة والأمر الكريم بملازمة ذكر الله عزَّ وجلَّ في جميع مقامات الحجِّ في الوقوف بعرفة أمرَ بالذِّكر وعند المشعر حرام أمر بالذِّكر، وعند نحر الهدي أمرَ بالذِّكر، وفي أيَّام التشريق أمر بالذِّكر، فالذِّكرُ هو مقصود هذه الأعمال، بل إنَّها لم تشرع إلاَّ لإقامة ذكره سبحانه.
وقد روى أبو داود وغيرُه عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: (( إنَّما جُعل الطوافُ بالبيت، والسعيُ بين الصفا والمروة ورميُ الجمار لإقامة ذكر الله عزَّ وجلَّ )) (3).
وفي هذا دلالةٌ على علو شأن الذِّكر ورفعة منزلته وجلالة قدره، وأنَّه مقصودُ العبادات ولبُّها، وقد
قال الله عزَّ وجلَّ في شأن الصلاة {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي}(4) أي: أقم الصلاةَ لأجل ذكر الله جلَّ وعلا، وسَمَّى سبحانه الصلاةَ ذكراً وذلك في قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ}(5)؛ لأنَّ ذكرَ الله روحُها ولبُّها وحقيقتُها، وهكذا شأن الذِّكر في جميع العبادات، وأعظم الناس أجراً في كلِّ عبادة أعظمُهم فيها ذكراً لله عزَّ وجلَّ.
روى الإمام أحمد والطبراني من طريق عبد الله ابن لهيعة قال: حدَّثنا زبَّان بن فائد، عن سهل بن معاذ ابن أنس الجهني، عن أبيه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنَّ رجلاً سأله فقال: أيُّ الجهاد أعظمُ أجراً يا رسول الله، فقال: (( أكثرُهم لله تبارك وتعالى ذكراً، قال: أيُّ الصائمين أكثرهم أجراً؟ قال: أكثرُهم لله ذكراً، ثم ذكر لنا الصلاة والزكاة والحجَّ والصدقة كلُّ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: أكثرهم لله ذكراً، فقال أبو بكر لعمر: يا أبا حفص ذهب الذاكرون بكلِّ خير، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أجل )) (6).
قال الهيثمي: (( وفيه زبَّان بن فائد وهو ضعيف، وقد وُثِّق وكذلك ابن لهيعة )) (7).
لكن للحديث شاهد مرسلٌ بإسناد صحيح رواه ابن المبارك في الزهد قال: أخبرني حيوةُ، قال: حدَّثني زُهرة بن معبد أنَّه سمع أبا سعيد المقبُري يقول: (( قيل: يا رسول الله، أيُّ الحاجِّ أعظمُ أجراً؟ قال: أكثرهم لله ذكراً، قال: فأيُّ المصلِّين أعظم أجراً؟ قال: أكثرهم لله ذكراً، قال: فأيُّ الصائمين أعظم أجراً؟ قال: أكثرهم لله ذكراً، قال: فأيُّ المجاهدين أعظم أجراً؟ فقال: أكثرهم لله ذكراً ))، قال زُهرة فأخبرني أبو سعيد المقبُري أنَّ عمرَ بن الخطاب قال لأبي بكر: (( ذهب الذاكرون بكلِّ خير )) (8).
وله شاهد آخر أورده ابن القيم في كتابه الوابل الصيب قال: وقد ذكر ابن أبي الدنيا حديثاً مرسلاً: (( أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم سُئل: أيُّ أهل المسجد خير؟ قال: أكثرُهم لله ذكراً عزَّ وجلَّ، قيل: أيُّ أهل الجنازة خير؟ قال: أكثرهم ذكراً لله عزَّ وجلَّ، قيل: فأيَّ المجاهدين خير؟ قال: أكثرهم ذكراً لله عزَّ وجلَّ، قيل: فأيُّ الحُجَّاج خير؟ قال: أكثرهم ذكراً لله عزَّ وجلَّ، قيل: فأيُّ العوَّاد خير؟ قال: أكثرهم ذكراً لله عزَّ وجلَّ، قال أبو بكر: ذهب الذاكرون بالخير كلِّه )) (9).
قال ابن القيم رحمه الله: (( إنَّ أفضلَ أهل كلِّ عمل أكثرُهم فيه ذكراً لله عزَّ وجلَّ، فأفضلُ الصُّوَّام أكثرُهم ذكراً لله عزَّ وجلَّ في صومهم، وأفضلُ المتصدِّقين أكثرُهم ذكراً لله عزَّ وجلَّ، وأفضلُ الحُجَّاج أكثرُهم ذكراً لله عزَّ وجلَّ، وهكذا سائر الأعمال )) (10).
فإذا علمتَ ذلك فلتحرص على ملازمة ذكر الله في جميع الطاعات؛ في صلاتك وصيامك وحجِّك وجميع عباداتك، فإنَّ أجرَك في كلِّ عبادة بحسب ذكرك لله فيها.
فالذِّكرُ أجلُّ الطاعات وأعظمُ العبادات، وثمارُه على أهله كثيرة لا تُحصَى، ومن أجَلِّ ثماره أنَّه وسيلةٌ مباركة لحياة القلب وتهذيب النفس وتزكية الفؤاد، وهو يجلب لقلب الذَّاكر الفرح والسرور والراحة، ويورث القلب السكون والطمأنينة، كما قال الله تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ}(11) وهو شفاءٌ للقلب ودواءٌ لمرضه ومُذْهِبٌ لقسوته، وفي القلوب قسوةٌ لا يُذيبُها إلاَّ ذكرُ الله تعالى، جاء رجلٌ إلى الحسن البصري ـ رحمه الله ـ وقال: (( يا أبا سعيد أشكو إليك قسوة قلبي، قال: أَذِبْه بالذِّكر )) (12).
وبذكر الله تتيسَّرُ الأمور وتتسهَّل الصِّعابُ، فما ذُكر الله على صعب إلاَّ هان ولا على عسير إلاَّ تيسَّر ولا مشقَّة إلاَّ خفَّت ولا شدَّة إلاَّ زالت، ولا كُربة إلاَّ انفرجت.
جعلنا الله وإيَّاكم من الذَّاكرين وجنَّبنا سبيل الغافلين، إنَّه سبحانه سميع الدعاء، وهو أهل الرجاء، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
***
-------------
(1) سورة الحج، الآيتان: 27، 28.
(2) سورة البقرة، الآيات: 198 ـ 203.
(3) سنن أبي داود (1888)، وسنن الترمذي (902)، وقال: (( حسن صحيح )).
(4) سورة طه، الآية: 14.
(5) سورة الجمعة، الآية: 9.
(6) المسند (15614)، والمعجم الكبير للطبراني (20/ رقم:407).
(7) مجمع الزوائد (10/74).
(8) الزهد (1429).
(9) الوابل الصيب (ص:152).
(10) الوابل الصيب (ص:152).
(11) سورة الرعد، الآية: 28.
(12) ذكره ابن القيم في الوابل الصيب (ص:142).