عن المقال
قصة موسى مع فرعون
قصة موسى مع فرعون
إنَّ من القصص العجيب الذي أعاده الله في القرآن وثنَّاه قصة موسى عليه السلام مع فرعون ، لكونها مشتملة على حكم عظيمة وعبر بالغة وعظات مؤثرة ، وفيها نبؤُه سبحانه مع المؤمنين والظالمين بإعزاز المؤمنين ونصرهم وإذلال الكافرين وخذلانهم { تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) نَتْلُو عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (3) إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} [القصص:2-4] .
ولما أراد الله جل وعلا إنقاذ هذا الشعب من ظلم فرعون وطغيانه وتكبره وعدوانه أجرى من الأسباب العظيمة ما لم يشعر به فرعون ولا أولياؤه ولا أعداؤه ، حيث أمر سبحانه أمَّ موسى عليه السلام أن تضع وليدها موسى في تابوت مغلق ثم تلقيه في اليم ، ووعدها تبارك وتعالى بحفظه وبشَّرها بأنه سيردُّه إليها وأنه سيكْبرُ ويسْلم من كيدهم ، وأنه سبحانه سيجعله من المرسلين { وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ} [القصص:7] . ففعلت ما أُمرت به ، وساق الله هذا التابوت وبداخله موسى عليه السلام يتقاذفه الموج إلى أن وصل مكان قريب من فرعون وآله { فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا} [القصص:8] وفي هذا أن الحذر لا ينفع من القدر ، فإن الذي خاف منه فرعون وقتَّل أبناء بني إسرائيل لأجله قيَّض الله أن ينشأ في بيت فرعون ويتربى تحت يده وعلى نظره وفي كفالته .
ومن لطف الله بموسى وأمه أن منعه من قبول الرضاعة من ثدي أي امرأة ، فأخرجوه إلى السوق لعلهم يجدون من يقبل منها الرضاع ، فجاءت أخته وهو بتلك الحال { فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ} [القصص:12] فاشتملت مقالتها هذه على الترغيب في أهل هذا البيت وبيان ما هم عليه من تمام الحفظ وحسن الكفالة { فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} [القصص:13] .
ولما بلغ عليه السلام أشده واستوى آتاه الله حُكماً وعلْما ؛ حُكماً يعرف به الأحكام الشرعية والفصل بين الناس، وعلماً كثيرا . ثم جرت أحداث منها قتل موسى عليه السلام للقبطي ، وتشاور ملأ فرعون مع فرعون على قتله واجتمع رأيهم على ذلك ، ويبلغ موسى الخبر فيخرج من مصر { خَائِفًا يَتَرَقَّبُ} [القصص:21] ودعا الله {قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ } [القصص:21] .
وأكرمه الله جل وعلا في رحلته تلك بالتزوج من امرأة صالحة ، ثمَّ إنه سبحانه أكرمه بأعظم كرامة وحباه بأعظم نعمة فجعله من المرسلين { قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ} [الأعراف:144] .
وأيَّده تبارك وتعالى بالحجج الباهرة والبراهين الظاهرة { اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِنْ رَبِّكَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ} [القصص:32] . ويأمره تبارك وتعالى بالتوجُّه إلى فرعون لدعوته ، وأمَره أن يقول له قولاً ليناً لعله يتذكر أو يخشى . ويطلب موسى من الله أن يعينه على ما حمله وأن يسدِّده فيما وكل إليه { قَالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْسًا فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (33) وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءًا يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ} [القصص:33-34] . فأجابه الله فيما سأل { قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا فَلَا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا بِآيَاتِنَا أَنْتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ} [القصص:35] .
ويأتي الأمر الإلهي إلى موسى وأخيه عليهما السلام لإنفاذ هذه المهمة وأداء هذا المطلب العظيم { اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي وَلَا تَنِيَا فِي ذِكْرِي (42) اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (43) فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى (44) قَالَا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى (45) قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى (46) فَأْتِيَاهُ فَقُولَا إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى (47) إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى} [طه:42-48] . ويتوجَّه موسى وأخوه هارون عليهما السلام بكل شجاعة وقوة وثبات لتبليغ رسالة الله وتنفيذ أمره سبحانه .
لقد أرسل الله موسى عليه السلام بالآيات والسلطان المبين إلى فرعون الذي تكبر على الملأ وقال أنا ربكم الأعلى، فجاءه موسى بالآيات البينات ودعاه إلى توحيد رب الأرض والسماوات ، فقال فرعون منكراً وجاحداً : { وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء:23] فأنكر الرب العظيم الذي قامت بأمره الأرض والسماوات وكان له آية في كل شيء من المخلوقات ، فأجابه موسى { قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ} [الشعراء:24] . ففي السماوات والأرض وما بينهما من الآيات ما يوجب الإيقان للموقنين ، فقال فرعون لمن حوله ساخراً ومستهزئاً بموسى : { أَلَا تَسْتَمِعُونَ} [الشعراء:25] ، فذكَّره موسى بأصله وأنه مخلوق من العدم وصائر إلى العدم كما عُدم آباؤه الأولون فقال موسى { قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ} [الشعراء:26] ، وحينئذ بهت فرعون فادَّعى دعوى المكابر المغبون فقال : { إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ} [الشعراء:27] ، فطعن بالرسول والمرسِل ، فردَّ عليه موسى ذلك وبيَّن له أن الجنون إنما هو إنكار الخالق العظيم فقال : { قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ } [الشعراء:28] . فلما عجز فرعون عن ردِّ الحق لجأ إلى التهديد والتوعد بالسجن فقال : { لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ} [الشعراء:29] . وما زال موسى يأتي بالآيات كالشمس وفرعونُ يحاول بكل جهده ودعاياته أن يقضي عليها بالرد والطمس حتى قال لقومه : { يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ (51) أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ (52) فَلَوْلَا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلَائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ (53) فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (54) فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ (55) فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا وَمَثَلًا لِلْآخِرِينَ} [الزخرف:51-56] .
وكان من قصة إغراقهم أنَّ الله أوحى إلى موسى أن يسري بقومه ليلاً من مصر فاهتمَّ لذلك فرعون اهتماماً عظيماً، فأرسل في جميع مدائن مصر أن يحشر الناس للوصول إليه لأمرٍ يريده الله ، فجمع فرعون قومه وخرجوا في إثر موسى متجهين إلى جهة البحر الأحمر { فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ} [الشعراء:61] البحر من أمامنا فإن خضناه غرقنا ، وفرعون وقومه خلفنا فإن وقفنا أدركنا ؛ فقال موسى : { قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الشعراء:62] ، فلما بلغ البحرَ أمره الله أن يضربه بعصاه فضربه فانفلق البحرُ اثني عشر طريقاً ، وصار الماء السيال بين هذه الطرق كأطواد الجبال ، فلما تكامل موسى وقومه خارجين ، وتكامل فرعون بجنوده داخلين ، أمر الله البحر أن يعود إلى حاله فانطبق على فرعون وجنوده فكانوا من المغرقين .
فانظروا - رحمكم الله - إلى ما في هذه القصة من العبر والآيات ؛ كيف كان فرعون يقتل أبناء بني إسرائيل خوفاً من موسى ، فتربى موسى في بيته وتحت حجر امرأته !! وكيف قابل موسى هذا الجبار العنيد مصرحاً معلناً بالحق هاتفاً به " ألا إنَّ ربكم هو الله ربُّ العالمين " فأنجاه الله منه !! وكيف كان الماء السيال شيئا جامداً كالجبال بقدرة الله ، وكان الطريق يبساً لا وحل فيه ولا زلق !! وكيف أهلك الله هذا الجبار العنيد بمثل ما كان يفتخر به ، فقد كان يفتخر بالأنهار التي تجري من تحته فأُهلك بالماء !! .
ولاشك أن ظهور آيات الله في مخلوقاته نعمة كبرى يستحق عليها الحمد والشكر ، خصوصاً إذا كانت في نصر أولياء الله وحزبه ودحر أولياء الشيطان وحزبه . ولذلك لما قدِم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة وجد اليهود يصومون اليوم العاشر من هذا الشهر – شهر المحرم – ويقولون إنه يوم نجَّى الله فيه موسى وقومه وأهلك فرعون وقومه فصامه موسى شكراً ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم (( نَحْنُ أَحَقُّ بِمُوسَى مِنْكُمْ )) فَصَامَهُ وَأَمَرَ بِصِيَامِهِ[1] ، وسُئل النبي صلى الله عليه وسلم عن صيامه فقال : ((أَحْتَسِبُ عَلَى اللَّهِ أَنْ يُكَفِّرَ السَّنَةَ الَّتِي قَبْلَهُ)) [2].
فينبغي للمسلم أن يصوم يوم عاشوراء وكذلك اليوم التاسع لتحصل بذلك فضيلة صيامه ومخالفة اليهود التي أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بها .
**********
________________
[1] رواه البخاري (2004) ، ومسلم (1130) عن ابن عباس رضي الله عنهما .
[2] رواه مسلم (1162) من حديث أبي قتادة رضي الله عنه .